الجمعة، ٢٢ رجب ١٤٢٩ هـ

فرقة الحسيديم: صوفية اليهود


هي حركة باطنية اجتماعية يهودية مائلة أشد الميل إلى حياة الحشن والاعتقاد بالعالم الروحي. وقد أسسها الحاخام إسرائيل بن أليعازر (Israel ben Eliezer) أو "بعل شوم طوب" (Ba'al Shem Tov) 1700-1760م في القرن الثامن عشر في بولوديا (Polodia) (بلدة تقع في جنوب شرق أوكرانيا تابعة لتركيا).

وكلمة الحسيديم أصلها عبرية على صيغة الجمع من كلمة "حسيد" (Chasidut חסידות) التي بمعنى "التقي". فالحدسيديم إذن بمعني "الأتقياء". فسميت هذه الحركة بحركة الأتقياء لأن المنتمين إليها يميلون إلى الصوفية ويكثرون من حياة الحشن والحوض في قضايا العالم الروحي.

سبب نشأة حركة الحسيديم
تقول المصادر التاريخية أن من أسباب ظهور هذه الحركة هي أن المجتمع اليهودي طيلة قرون عديدة في أوكرانيا وبولندا قد أصيب بإحباط نفسي وأزمات اقتصادية، وخاصة في عهد بوجدان تشميلنيكيBogdan Chmielnicki الذي أذاق المجتمع اليهودي أشد العذاب، ويؤدي ذلك في نهايته إلى مذبحة شهيرة قادها هو. فقُتل الآلاف منهم.

وقد وجد اسم الحسيديم قبل وجود هذه الحركة بقرون، وهو كان يستخدم للإشارة إلى عدد من الفرق الدينية التي ظهرت بين القرن الثاني عشر-والثالث عشر من التاريخ الألماني الوسطى. (انظر عرفان عبد الحميد (1422هـ/2002م) اليهودية: عرض تاريخي والحركات الحديثة في اليهودية، ص 206).

مؤسسها

وأما عن مسسها وهو الحاخام إسرائيل بن أليعازر (Israel ben Eliezer) (1700-1760)، وقد لُقب"بعل شوم طوب" (Ba'al Shem Tov) الذي بمعنى (Master of the Name) ، وسبب تلقيبه بهذا اللقب هو أنه كان له مهارة معالجة أمراض الناس بالرقى والأدعية والتمائم، وقد أطلق على الذين لهم هذه المهارة لقب "بعل شم" الذي بمعنى (Master of the Name) والمعنى اللغوي لهذه الكلمة هو "اسم الرب"، فللتمييز بينه وبين الآخرين الذين لهم تلك المهارة أيضا، فأضاف أتباعه كلمة "طوب" في لقبه التي تعني "طيب"، فأصبح لقبه "بعل شم طوب"، ثم أصبح يختصر بلقب "بشط" ""Besht. (انظر جعفر هادي حسن )1415ـ/1994م( اليهود الحسيديم نشأتهم تأريخهم، وعقائدهم، وتقاليدهم).

ولم يتلقى بشط التعليم الحاخامي اللازم، ولم يدرس التلمود دراسة كافية، وقيل أنه كان يعتمد على كثرة النوم لانتظار الوحي، ولم يكتب هو أي كتاب ولم يدون تعاليمه، وكان أتباعه نقلوا تعاليمه بواسطة المشافهة. وقيل أن مصارد نظرياته مستقاة من مصارد يهودية، وخاصة القبالاه، غير أنه أضاف إليها مفاهيم جديدة، وخلق نمطا جديدا من الفلسفة الحلولية. (انظر R. J. Zwi Werblosky & Geoffrey Wigoder (1997) The Oxford Dictionary of the Jewish Religion).

الأصول الفكرية لحركة الحسيديم

فلهم أفكار مختلفة وسنكتفي بعرض أهمها. فمن أصول فكريهم المهمة أنهم يرون أن الهدف الأساسي من الحياة ليس فهم للكون وتغيراته وإنما هو للالتصاق بالإله والاتحاد معه والشعور بدوام حضوره وبإراداته المستقلة "ديفيقوت" " Devekut"، (Communion between God and man). (والكلمة تشير إلى الحب العميق للإله التي تؤدي إلى التوحد معه)
ومن ضروريات الشعور بالالتصاق بالإله أنه لا بد أن تهيمن في قلوبهم الشعور بحضور الإله (sparks of holiness) في كل شيء، وحتى في الأشياء التافهة.
وللديقوت شورط، منها أنه لا بد من اصطحاب الإخلاص، وهو ركن عظيم فيه. والإخلاص عندهم هو البساطة واليسر.
ويعتقدون بالتناسخ، وهو عندهم يحصل على الإنسان إذا لم يتمكن من خلال حياته أداء الواجبات والفرائض المطلوبة منه، وكذا إذالم يتحقق ما يجب عليه.
فلأجل أن يؤدي الشخص كل الفرائض، سيمر هو بالتناسخ مرات كثيرة، ولكن الأفضل أن ويتحاشاه الإنسان، لأن كل حياة جديدة ستكون محاطة بمخاطر اقتراف الذنوب مرة أخرى، فحسيديم يمكن عندما حوسب بعد وفاته وجد مذنبا باقتراف ذنب واحد عرض عليه أن يختار بين أن يدخل جهنم لنصف الساعة أو ينزل إلى الأرض بحياة أخرى. فالتناسخ عندهم لا يكون بين إنسان وإنسان فقط، بل إن قد يكون بين إنسان وحيوان، فتحل الأرواح في جسم حيوان
عباداتهم
وهم يحبون أن يقربوا أنفسهم إلى الله تعالى بالعبادة، ولكن الأصل أن العبادة عندهم يجب أن تتم بكل الطرق. والتقرب إلى الله تعالى لا تقتصر على الزهد والتقشف ونكران الذات والصوم، وهي لا تقتصر على قراءة التوراة والصلاة-كما عند اليهود الآخرين- بل كل الأعمال التي يقوم بها الإنسان التي يقصد بها التقوى وطاعة الله تعالى لا لأجل التمتع والتلذذ يصح أن تكون عبادة، وهي وإن كان في صورة الأكل والشرب أو المحادثة بل حتى الاتصال الجنسي، فالطعام يكون عبادة إذا قصد به التقوى وطاعة الله تعالى وهكذا. فهي يجب أن تؤدى بشكل طبيعي لا بشكل اصطناعي، لذلك يمنعون من أن يقوم الإنسان بالعبادة أكثر مما يستطيع.
فالصلاة عبادة مؤكدة عند الحسيديم، وهي أهم من دراسة التوراة -ودراسة التوراة عند اليهود الآخرين أهم الواجبات وأعظمها- فهي لا يجوز أو لا يصح أن تؤدي لأجل غرض دنيوي، وهي إن أديت لذلك سيكون ستارة تفصل بين المصلي وبين ربه.
وهي تجب أن تحقق فيها ركنان وهما:
• الالتصاق بالإله (Devekut) بشرطيه المتقدمين، أي الإخلاص والخشوع (أي التدبر فيما يقرأ).
• وأن تصطحب بهسلاهاووس (Hislahavus) وهو الشعور بالنشوة، وهو من مبادئهم الأساسية، وأركانها الأخرى هي النية.
وكان الرقص والغناء شعيرة من شعائرهم الشرعية، وكانوا يرقصون في أثناء كل احتفالاتهم كالحتفالات بالزواج وفي كل المناسبات الدينية وحتى في صلاتهم وعند ذكرى مشائخهم عند مقابرهم! وكان سبب هذا الرقص أن الحسيديم اهتم بالسعادة والفرح والنشوة اهتماما بالغا، وهي تعتبر عندهم من أصول مهم في حركتهم، فكل أعمالهم لا بد أن يصطحب بها. وقد حث بشط أتباعه وطلب منهم أن يكونوا سعداء وأن لا يكونوا حزينين وحتى عند اقترافهم الذنوب، وقالوا أن الشعور بحضور الإله لا بد أن يصطحب بالسعادة والفرح والنشوة. ولا يجوز الحزن والكآبة بكل أشكالها، ولا بدّ من الإبتعاد والتخلص منها. وسبب فكرتهم هذه أنه بواسطة الشعور بالسعادة والفرح يمكن المرء أن يطرد الأفكار الشريرة وخاصة عند الرقص والأغاني. وأما الشعور بالخوف فلا يؤدي إلا إلى تحجيب العلاقة مع الرب.
ومما يرتبط بالسعادة عندهم شرب الكحول والويسكي قبل الذهاب إلى النوم! ويشجعون على شربه وأعطاه. ويعتبرون إعطاءه للغير علامة صداقة حقيقية، لأن الخمر سيساعد الصديق في تقوية قلبه وانعاش روحه.


لباس الحدسيديم ومظهرهم

وللحسيديم لباس خاص متميّز، وهو أنهم يلبسون قفطانا طويلا أسود يقال له bekishe، وقبعة سوداء، وتحتها قلنسوة، ويزرون في جهة اليمين من القفطان أو البدلة على الشمال. ولكل فرق حسيدية لباسها الخاص بها، وهي وإن كانت تختلف ويتحد في اللباس الذي ذكرنا، ويلتزم الحسيديم بهذا اللباس، ولا يلبسون لباسا آخر فضلا عن لباس الحديث. وهي في الحقيقة لباس تقليدي ليهود شرق أوربا القديم.
وهم يحرمون لبس الخليط من الصزف والكتان ولو بطريق خطأ، والصلاة التي تقام بلبسه باطلة غير صحيحة. (انظر جعفر هادي حسن)

مبدأ التساديك Tsaddiq

وثاني أهم ميزة حركة الحسيديم التي تميزها من غيرها -من الحركات الدينية وحتى اليهودية- وهو مبدأ يتعلق بالاعتقاد برجال الدين، وقولي بأنها ثاني أهم ميزة حركة الحسيديم لأن الأصول الأخرى عندهم وإن كانت ميزات مميزة للحركة، لكنها لها جذورها في التراث الفكري اليهودي القديم أو وجد ما شابهها في الأديان الأخرى، وأما هذه الفكرة لا توجد إلا عندهم. و"التساديك" كلمة عبرية معناها "الرجل الصالح" أو "الصديق". وهو في الحقيقة منصب الزعامة الدينية والاجتماعية في نفس الوقت. وكان غالب طابعه كونه مرشدا روحيا.

فتلخيص حقيقة هذا المنصب هو:

• التساديك هو معلم ومستشار وأب ومخلوق مقدس عندهم.
• له مهمة خاصة، وهي قيادة جماعته إرشادهم وربطهم بين السماء، أي للوصول إلى الالتصاق بالإله والاتحاد معه "ديفيقوت" " Devekut"، وتخليصهم من الذنوب.
• عنده قدرة على التقرب إلى الله والتوحد معه.
• لا يشترط أن يكون التساديك ذا مؤهلات رسمية، كأن يكون عالما متمكنا بعلوم الشريعة اليهودية.
• وليس هو المسؤول في الإفتاء في المسائل الشرعية، وهناك حاخامون خاصون بهم مسؤولون عنها.
• زعامة التساديك في كثير من الأحيان وراثية، ولكن ذلك ليس حتما لجواز أن يكون الصديق من دون الوراثة.
• التساديك مقدس منذ في رحم أمه، وإن جسمه مخلوق من مادة أكثر شفافية من غيره، لأنه أحد التجليات النورانية العشرة (سفيرة)، أي أنه جزء من الإله، هو أحد العمد التي تستند إليها الدنيا، وهو أساس العالم (يسود)، و العالم خلق من أجله. وهو خُلق لمهمة عليا. وهو كذلك يحمل روح موسى عليه السلام. (انظر عبد الوهاب محمد المسيري)
• ولأجل تخليص أتباعه من الذنوب، فلهم مبدأ "الهبوط لأجل الصعود" أي لا بد على التساديك أن يهبط من درجته المقدسة إلى درجة أدنى ليخلص أتباعه من الذنوب، وإن أدى ذلك الهبوط إلى مخالفة أحكام الشريعة، فمن ذلك قالوا، يجب أن تكون للتسديك قدرة على الذنب لكي ينفذ أتباعه، وبعد ذلك الهبوط ستصبح مكانته أفضل.
• أن للتسديك سلطة إلغاء أي حكم من الأحكام الشرعية.
• وله قدرة غير محدودة، فله قدرة في تغيير قضاء الله تعالى وقدره، وكذلك القدرة على أن يرى ما لا يراه الآخرون.
• وهو عادل في سلوكه، وما يقوم به هو وحي، كلامه مقدس كقداسة التوراة وقداسة الإله، ولذا فإن من يعارضه يجدف في الإله.
• لا يجوز أن تنتقد أقوال التساديك وأفعاله بأية حال من الأحوال. وحتى ما لا يعرف سببه.
• على الحسيد أن يطيع التساديك إطاعة عمياء غير مشروطة،
• وإن التشكيك بالتساديك يعتبر ذنب بل أعظم منه.
• للتساديك بلاطه الخاص به، ويعد مركز القداسة له، وكذلك يعتبر مركز الحلول الإلهي أو اللوجوس الذي يوحد بينهم.
• يجتمع الحدسيديم حول التساديك –وخاصة في يوم السبت- ليصلوا معه ويستمعوا إلى نصائحه وخطاباته وقصصه ويستشيرونه ويعرضون عليهم مشاكلهم ليحلها، ويحرص كل الحسيدي –بل يلتهمون- في ذاك اليوم أن يأكل بقايا طعام التساديك التي تركها على المائدة في الوجبة الثالثة وكذلك بقايا شرابهم لاعتقادهم أن لها بركة من السماء. وتعتبر زيارة الحسيد للتسديك واجب من الواجبات الدينية، فهو لا بد أن يؤديه مرة في السنة.

أفكار أخرى لهم

ولهم أفكار أخرى ذات أهمية في معرفتها فبالاختصار أنها:
1. فكرة المسيح المخلص، وهي من معتقدة مهمة لهم كما هي معتقدة رئيسية عند اليهود الآخرين، بل هم أكثر انشدادا لها، وحديثا عنها، وتعلقا بها.
2. يرى معظم فرق الحسيديم أن الهجرة إلى فلسطين ضرورة، فلذلك هاجر بعضهم إليها ويسكنون وينشؤون مراكزهم مدارس خاصة بهم فيها، وقد جمعوا أموالا لذلك الغرض. وهناك فرق –منهم- رأت أن الهجرة إلى فلسطين لا تصح إلا بعد ظهور المسيح المخلص الذي في رأيهم سينشئ الدولة اليهودية الشرعية. ورآى بعضهم أن إنشاء دولة إسرائيل جريمة كبيرة، وكل دولة يهودية شرعية تقوم قبله هي دولة غير شرعية، وأما الدولة الموجودة الآن إنما هو مبادرة من الإله نحو الخلاص. (انظر عبد الوهاب محمد المسيري)
3. وهم يتشددون في مخالطة الرجال والنساء، فيرون حرمة جلوسهم معهن في الكنيس مثلا، فلا يصلهم سوى حاجز واطئ، ويحذرون أفراد الحركة من السفر بالقطارات المزدحمة المملوءة بالنساء شبه العاريات، ويحرض على تغيير العمل والحصول على عمل قرب مقر الجماعات ولو كان ذلك بأجور أقل لاجتناب مشاكل الاختلاط وغيرها.
4. ومن أهم سلوكهم أنهم يرفضون ولا يسمحون لأصحاب الحركة التعامل مع غيرهم من المتدنين من اليهود أو غيرهم، وذلك كالتحدث معهم أو الاستماع إلى أحاديثهم، ويرون أن التعامل مع غيرهم من السلوك الباطلة ومخالفات الشريعة.
5. وإذا خالف الحسيدي أو ظهر منه ما يتبرون انحرافا يعامل فيه بشيء من الازدراء وعدم الاهتمام، حيث ينبه إلى أن ما قام به يعتبر عملا لا ترضيه المجموعة ولا تقبله وفي أحيان أخرى يكون التنبيه عن طريق المقاطعة اللاقتصادية.
6. هناك منع ضمني من الاتصال بالعالم الخارجي، كالحديث إلى الجرائد والتلفيون والراديوا، ولا يشترون الصحف التي تصدر باللغة الإنجليزية أو غيرها، ولا يقرأون إلا عرضا، ويقولون بأن هذه الصحف تطبع يوم السبت، والعمل في يوم السبت حرام عندهم. فلذلك كانت لبعض فرقهم منشوراتهم الخاصة لهم، وهي تكون مصدر معلوماتهم، ولهم جريدة الأسبوعية، وبعض المجلات الشهرية التي تصدر باللغة العبرية، وغالبا ما تعالج هذه المجلات موضوعات دينية. ولكنهم على الرغم من عزلتهم ومدنيته فإنهم من جانب لا يرفضون استعمال وسائل التقنية الحديثة مثل الغسالات والثلاجات والسيارات وغير ذلك.
7. وكان لبعض فرقهم انغلاق شبه تام للعالم، حيث إنهم لا يقتنوا التلفيزون ولا يشاهدونه، وحتى لا يسمعون المذياع، وقالوا بأنه لا يشجع على عبادة الله تعالى، وهذا فضلا عن الذهاب إلى السينماء أو إلى المسرح.
وخلاصة القول أن هذه الحركة من الحركات الصوفية اليهودية التي لها حسناتها كتمسكهم بعاداتهم والتزامهم ببعض السلوك الصافية ومساويها كمحاولة تقوية ارتباط أعضائها بالجماعة بتسهيل الشريعة والتقليل من صعوباته. فلمن يحب المزيد من المعلومات عن الحركة فليراجع إلى المؤلفات التي ألفت فيها أو المواقع التي ذكرت عنها. والله أعلم.

ليست هناك تعليقات: